العودة للدار
بعد فترة من الزمن اتصلت بصديقتي لأطمئن عليها فأخبرتني بأنها قد أخذت إجازة وهي مع أمها في مدينتهم·
سعدت كثيرا لهذا الخبر وتمنيت أن ترتاح تلك العجوز المسكينة وتسعد خلال هذه الإجازة وقد عادت لبيتها ولو لفترة مؤقتة·
أخذتني دوامة العمل والانشغالات اليومية فلم يتسنى لي الوقت الكافي للاتصال بصديقتي والاطمئنان عليها وعلى والدتها حتى فوجئت بـ''مسج'' منها تخبرني فيه بوفاة والدتها·
لا حول ولا قوة إلا بالله··· رحلت تلك العجوز وتركت هذه الدنيا خلفها ولم يعد لمشكلتها وجود·
ذهبت لأعزي صديقتي في مدينتهم حيث أقيم العزاء· دخلت البيت الذي كونت له بخيالي صورة جميلة من خلال ما صورته لي المرحومة، فوجدته بيتا بسيطا من البيوت الشعبية، تمتلئ ساحته بنخلات هرمات، والدجاجات يمرحن بحرية في أنحائه، كما تهب رائحة الغنم بين حين وآخر· أما أوراق اللوز فقد غطت جزءا كبيرا من الأرض· شعرت بأن هناك ألفة غريبة بيني وبين المكان وكأنني قد زرته سابقا·
جلست مع صديقتي بعد أن عزيتها وواسيتها بكلمات الصبر والاحتساب، ثم بعد أن انصرفت المعزيات سألتها عن حكاية موت العجوز فقالت: أمي رحمها الله كانت ذكية جدا، فكرت في خدعة بسيطة تعيدها لمنزلها··· ربما كانت تشعر بقرب أجلها، وبالطبع فهي تفضل الموت في بيتها الذي عاشت فيه معظم سنين عمرها· وكما علمت فهي لم تتقبل العيش بعيدا عنه، ولم يكن سهلا أن تقنعنا بإعادتها لولا تلك الخطة··· أنت لن تصدقي ما فعلت!
لقد أخبرتني بأنها تملك مبلغا كبيرا من المال وكمية لا بأس بها من الذهب، وقد أخفت كل ذلك في مكان سري في بيتها، وقد نسيت ذلك المكان، وهي تحتاج لوقت طويل حتى تتذكر أين وضعت ذلك المال، وقد ذكرت مبلغا ضخما لا يمكن تجاهله··· ومع أنني أعرف جيدا بأن أمي وأبي لا يملكان مثل هذا المبلغ، إلا أنها استطاعت أن تتقن الأداء حتى أقنعتني بعدم إضاعة مثل هذا الكنز، فصدقتها وأخذت إجازة بدون راتب من عملي وجلست معها أشهرا طويلة بعيدا عن بيتي لنبحث عن ذلك المال·
بحثت في كل مكان ولم أجد شيئا ثم بعد أن يئست من العثور عليه طلبت مها العودة معي فرفضت وأصرت على البقاء· كنت مستغربة وأنا أجدها قد عادت إلى طبيعتها السابقة، لطيفة ومرحة، لقد انقلبت أحوالها انقلابا كاملا وكأنها قد عادت إلى شبابها·
قبل أيام من موتها طلبت مني المسامحة على أسلوبها السابق في التعامل معي وعلى كذبتها البيضاء حول المال· صدمتني صدمة عنيفة فلم أستطع تقبلها فجلست أبكي وألومها لأنها جعلتني أترك بيتي وزوجي وعملي من أجل كذبة اخترعتها لتعود لبيتها· اتهمتها بأنها لا تحبني ولا تفكر بمصلحتي وكل ما يهمها هو العودة لبيتها مهما كان الثمن، وصرت أعيب على هذا البيت القديم ورائحته العفنة والقذارة التي تحيط به بسبب الأغنام والدجاج·
لم تغضب لغضبي وظلت مبتسمة وسعيدة، تحاول إرضائي ولم تمر إلا أيام قلائل حتى رحلت بهدوء وسكينة وقد تركت لي عذابا نفسيا مؤلما على عدم صبري عليها وعلى لومها وعلى كل تصرفاتي معها· أتمنى أن تسامحني وأن يغفر لي ربي على تصرفي الأحمق مع والدتي·
سقطت الدموع الحارة من عينيها فاحتضنتها وخففت عنها وأنا في وضع غريب، مشاعري متناقضة، فأنا سعيدة لأن تلك العجوز قد رحلت وهي في بيتها كما تحب، وحزينة لصديقتي التي لم تعرف كيف تحنو على أمها وهي أمانة أودعها الخالق بين يديها·
كم أتأسف لأن الناس يكونون في أشد حالات العطف والحنان على أطفالهم، وعندما يكبرون ويحتاجون لذلك العطف والحنان فلا يجدونه بنفس القدر· حقا إن أمر الدنيا·· عجيب