[size=24]×?° صديقي المبتهج .. ×?°
سعاد جواد:
''كل شيء جميل ورائع في حياتنا، فلماذا يبتئس الناس؟ الهواء المحمل برائحة الملح والتراب، والرطوبة التي تعلن عن تمرد البحر وانتشائه، والليل المضيء بالإعلانات والأضواء· صخب السيارات وتزاحمها المستمر ليلا ونهارا، سخونة الأرض ولهيبها، والدوران المستمر لأجهزة التكييف، كل ذلك يشكل سيمفونية رائعة للحياة في هذا البلد الجميل، وكلما ابتعدنا عنه عدنا للشوق إليه أكثر وأكثر· إنه وطن خالد يستوعب كل الأحلام؛ فلماذا إذا يتبرم الناس، لماذا لا يسعدون كلهم، لماذا يتأففون باستمرار؟
إنهم لا يشعرون حقا بكل النعم الممنوحة لهم· لو فكروا قليلا··· ماذا يهم لو قل الرزق؟ ماذا يهم لو رحل عنهم عزيز؟ ماذا يهم لو أنهم مرضوا؟ كل هذه الأشياء تحدث كل يوم، فلماذا يفاجأ الإنسان بهذه الأحداث، ولماذا يتذمر إن وقعت له شخصيا، ألم تقع لغيره من قبل؟ فلماذا يحزن إذا حدثت له· أليس هذا أمر عجيب؟''
أكمل حديثه وابتعد عني بخطوات مرحة متجها إلى البحر يبلل بمائه ساقيه كما يحب أن يفعل دائما· عجيب هذا الإنسان· على الرغم من صداقتنا الطويلة فأنا لا أفهمه··· منطقه غريب، وفلسفته عجيبة· يقول كلاما لا يقوله غيره، ويتصرف تصرفات غير معقولة·
أنظر إليه وهو كالطفل يداعب الموج والرمال بقدميه فيمر الشريط بذاكرتي··· حياته كانت مليئة بالمآسي ولكنه كان دوما سعيدا ومبتسما، وبالطبع فإنني لا أعرف السبب· فكما قلت لكم هو إنسان يصعب فهمه· حتى أنا صديقه، عشت معه منذ أن كنا أطفالا ولم نفترق إلا لأسباب قاهرة··· حتى أنا الذي أعتبر نفسي مسؤولا عنه وكأنني شقيقه الأكبر وأقرب الناس إليه··· حتى أنا أعجز عن تفسير معظم تصرفاته·
اليتم الغريب
أتذكر جيدا ذلك اليوم، عندما أحضروه إلى بيت جدته المجاور لبيتنا ليعيش معها، بعد أن طلق أبوه أمه وسافر بعيدا تاركا ولده الوحيد برعاية جدته· أمه أيضا تزوجت ولم تسأل عنه يوما· كان عمره ست سنوات فقط، وهو أصغر مني بثلاث سنين· شعرت بالتعاطف معه لأنه كاليتيم، فمع أن والديه على قيد الحياة إلا أنهما لم يسألا عنه أبدا·
أحببته كثيرا لأنه كان مبتسما طوال الوقت، لا يعرف الحزن ولا البكاء· حتى عندما كان يلعب معنا فيسقط أو يضربه أحد الأولاد فإنه لا يبكي ويبقى مبتسما ينظر إلى من حوله باطمئنان·
كنت متعاطفا معه بشدة، اعتبرت نفسي مسؤولا عنه في الشارع وفي المدرسة، وكان والدي يشجعني على العناية به وهو يردد دائما: مسكين هذا الولد، إنه كاليتيم تماما·
عندما بلغ سن العاشرة توفيت جدته وبقي وحيدا في منزلها، كان وضعا مأساويا أذاب قلوبنا··· طفل في العاشرة يعيش وحيدا ولا أحد يسأل عنه·
اقترحنا عليه العيش معنا في بيتنا فرفض· بقي لوحده فلم نقصر جميعنا في تلبية كافة احتياجاته وكأنه بيننا· حتى أن والدي قام بفتح باب صغير في السور الفاصل بين بيتنا وبيته ليسهل لنا وله الانتقال بين البيتين، ولم يكن ذلك الباب مغلقا في يوم من الأيام·
عندما بلغ الخامسة عشرة صار يعتمد على نفسه في القيام بجميع أعمال التنظيف وغسل الثياب والطبخ ليخفف عنا تلك المسؤولية التي كانت خادمتنا تقوم بها بين الحين والآخر·
الاعتماد على النفس
على الرغم من تلك الظروف التي عاشها إلا أنه كان ناجحا في دراسته، مرحا سعيدا بحياته، يرضى بالقليل ولا يفكر بامتلاك ما لم يكن متاحا له·
أنهى الثانوية وطلب من والدي مساعدته في الحصول على عمل يعتاش منه، فوجد له وظيفة بسيطة في شركة كبرى، فأسعده ذلك العمل سعادة لا توصف، فتحسنت أوضاعه بعض الشيء بعد أن صار له راتب خاص به·
أول شيء فعله بعد أن صار لديه المال هو ذهابه للسؤال عن والدته وإخوته وأقربائه الذين لم يسألوا عنه يوما· صار يزورهم ويشتري لهم الهدايا ويمنحهم المساعدات حتى أصبحوا يستغلونه ويستولون على معظم راتبه بحجج كثيرة غير منطقية وهو راض وسعيد لا يفكر ولا يخطر على باله سوء النية الذي يخفيه هؤلاء الناس في تعاملهم معه·
بصعوبة أقنعته بأن يختبرهم اختبارا بسيطا فيطلب منهم مساعدة من أي نوع ليتأكد من سلامة نواياهم ففعل ذلك كارها، وقد صدمه إعراضهم عنه ومقاطعتهم له من جديد، فأصبح متضايقا جداً فاقترحت عليه أن يتواصل معهم دون أن يسمح لهم باستغلاله حتى يتعودوا على وجوده في حياتهم دون أن يكون لذلك ثمن·
أعجبته الفكرة وصار يتردد عليهم ويتصل بهم باستمرار دون أن يحصل على أي استجابة أو ود منهم فيشعر بالألم ولكنه يعود للرضا والابتسام وإيجاد الأعذار لهم·
في أحد الأيام اتصل بي وكان سعيدا بشكل كبير، أخبرني بأن والده قد عاد من سفره وهو يقيم عنده· استغربت لهذا الأمر كثيرا، هل يعقل هذا؟ ذلك الأب الجاحد، تركه وهو صغير دون نفقة أو سؤال أو أي نوع من أنواع الإحساس بالمسؤولية الأبوية، سافر إلى بلاد معروفة بالفسق والفجور لينغمس فيها سنين طويلة دون أن يسأل عنه، وقد عاد بعد أن هده المرض والإفلاس، ولم يجد سوى ابنه ليلقي بمسؤوليته عليه··· ألا يخجل من نفسه؟
لم يقصر الولد مع والده وظل يعتني به عناية تفوق التصور· يسهر معه طوال الليل ويذهب إلى عمله وهو مرهق ثم يعود فيعد له الطعام ويحممه ويعطيه الدواء ويأخذه إلى مواعيد العلاج بإخلاص منقطع النظير، حتى أنه من قلة النوم أصبح شاحبا مخيفا لا يقوى على الوقوف من شدة الهزال· أخيرا رحل ذلك الأب وهو غارق بالندم على كل ما فعله بابنه·
تجربة حب
عندما بلغ الخامسة والعشرين صارحني بميله لإحدى بنات الجيران· كان معتقدا بأنها تبادله نفس الشعور· ترسل له الرسائل، وتسمعه الأغنيات العاطفية والقصائد الغزلية، وهو ســـــعيد للغاية بتلك المشـــاعر التي تتملكه كلما رآها وكلما وصله شيء منها·
كان الوضع حساسا بالنسبة لي، فأنا أعلم جيدا بأن تلك البنت من النوع اللعوب، وهي ربما لم تكن صادقة في مشاعرها، فلم أعرف كيف أتصرف··· هل أطلعه على حقيقتها؟ أم أتركه يخوض تجربته بنفسه دون أن أتسبب له بالألم؟ فاخترت الفكرة الثانية لخوفي عليه·
طلب من والدي أن يخطبها له ففعل والدي ما أراد وخطب له البنت فوافق أهلها على الخطبة وتم عقد القران شرط أن يتم الزواج بعد إنهائها الثانوية التي رسبت فيها عدة سنوات·
خلال فترة الخطبة كان صديقي مثالا للإخلاص والتفاني لخطيبته وأهلها، ينفق كل ما لديه من أجلهم، وكان والدي ينصحه بالتوفير من أجل العرس وهو مستغرب من تصرفات البنت وأهلها وكأنهم لا يفكرون إلا باستغلاله قدر الإمكان·
طالت فترة الخطبة لسنتين دون أن تظهر أية علامة تدل على جدية هؤلاء الناس، ثم حدث ما هو متوقع منهم، فقد صارت البنت تتهرب من خطيبها وتتجنب مكالمته أو السماح له بدخول بيتهم، وقد علمت شخصيا بعلاقتها بشاب آخر كانت تخرج معه، فلم أشأ إخبار صديقي كي لا أجرح مشاعره، فما كان منها إلا أن أخبرته برغبتها في فسخ العقد لحجج واهية ثم تزوجت ذلك الشاب الآخر·
لو أن أي شاب غيره حصلت له نفس المشكلة لمات غيظاً وكمداً ولقلب الدنيا على رأس الفتاة وأهلها، إلا أن صديقي هذا لم يفعل أي شيء سوى أنه مر بفترة صمت وعزلة بسيطة ثم عاد للابتسامة مرة أخرى وهو يردد: إنها ليست من نصيبي· فاستغربت لطريقة تفكيره وعجزت عن فهمه، فهل يعقل أن يواجه مثل هذا الأمر بهذه البساطة؟
يتبع